سورة يونس - تفسير تفسير الثعالبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{قال} الله عز وجل لموسى وهارون {قد أجيبت دعوتكما} إنما نسب الدعاء إليهما وأن الداعي هو موسى وحده لأن هارون عليه السلام كان يؤمن والتأمين دعاء لأنه طلب وسؤال أيضاً ومعناه اللهم استجب فصار بذلك شريك موسى في الدعاء فلذلك قال تعالى قد أجيب دعوتكما {فاستقيما} يعني على تبليغ الرسالة وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذاب {ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} يعني ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فإن وعدي لا خلف فيه ووعدي نازل بفرعون وقومه فلا تستعجلا.
قيل: كان بين دعاء موسى عليه السلام وبين الإجابة أربعون سنة.
قال الإمام فخر الدين الرازي: واعلم أن هذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى وهارون كما أن قوله لئن أشركت ليحبطن عملك لا يدل على صدور الشرك منه.
قوله عز وجل: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} أي: وقطعنا ببني إسرائيل البحر وعبرناهم إياه حتى جاوزوه وعبروه {فأتبعهم فرعون وجنوده} يعني لحقهم وأدركهم {بغياً وعدواً} أي ظلماً وعدواناً وقيل البغي طلب الاستعلاء بغير حق والعدو الظلم وقيل بغياً في القول وعدواً في الفعل.
قال أهل التفسير: اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف وهم اثنان وسبعون وخرجوا مع موسى من مصر وهم ستمائة ألف وذلك أنه لما أجاب الله دعاء موسى وهارون أمرهما بالخروج ببني إسرائيل من مصر في الوقت الذي أمرهما أن يخرجا فيه بهم ويسر لهم أسباب الخروج وكان فرعون غافلاً فلما سمع بخروجهم ومفارقتهم مملكته خرج بجنوده في طلبهم فلما أدركهم قالوا لموسى أين المخلص والمخرج البحر أمامنا وفرعون وراءنا وقد كنا نلقى من فرعون البلاء العظيم فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وكشف الله عن وجه الأرض وألبس لهم البحر فلحقهم فرعون وكان على حصان أدهم وكان معه في عسكره ثمانمائة ألف حصان على لون حصانه سوى سائر الألوان وكان مقدمهم جبريل وكان على فرس أنثى وديق وميكائيل بسقوهم حتى لا يشد منهم أحد فلما خرج آخر بني إسرائيل من البحر دنا جبريل بفرسه فلما وجد الحصان ريح الأنثى لم يملك فرعون من أمره شيئاً فنزل البحر وتبعه جنوده حتى إذا اكتملوا جميعاً في البحر وهمّ أولهم بالخروج التطم البحر عليهم فلما أدرك فرعون الغرق أتى بكلمة الإخلاص ظناً منه أنها تنجيه من الهلاك وهو قوله تعالى: {حتى إذا أدركه الغرق قال} يعني فرعون {آمنت أنه لا إله إلا لذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} قال ابن عباس: لم يقبل الله إيمانه عند نزول العذاب به وقد كان في مهل.
قال العلماء: إيمانه غير مقبول وذلك أن الإيمان والتوبة عند معاينة الملائكة والعذاب غير مقبولين ويدل عليه قوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} وقيل: إنه قال هذه الكلمة ليتوصل بها إلى دفع ما نزل به من البلية الحاضرة، ولم يكن قصده بها الإقرار بوحدانية الله تعالى والاعتراف له بالربوبية لا جرم لم ينفعه ما قال في ذلك الوقت.
وقيل: إن فرعون كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع الخالق سبحانه وتعالى فلهذا قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل فلم ينفعه ذلك لحصول الشك في إيمانه ولما رجع فرعون إلى الإيمان والتوبة حين إغلق بابهما بحضورالموت ومعاينة الملائكة قيل له.


{آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} يعني الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية، والمخاطب لفرعون بهذا هو جبريل عليه السلام وقيل الملائكة. وقيل: إن القائل لذلك هو الله تعالى عرف فرعون قبح صنعه وما كان عليه من الفساد في الأرض ويدل على هذا القول قوله سبحانه وتعالى فاليوم ننجيك ببدنك، والقول الأول أشهر ويعضده ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما أغرق الله فرعون قال آمنت أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل يا محمد فلو رأتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن. وفي رواية أخرى عنه عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: ذكر أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن جبريل عليه السلام جعل يدس في فيّ فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه الله أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
فصل في الكلام على هذا الحديث:
لأنه في الظاهر مشكل فيحتاج إلى بيان وإيضاح فنقول قد ورد هذا الحديث على طريقين مختلفين عن ابن عباس، ففي الطريق الأول عن ابن زيد بن جدعان وهو وإن كان قد ضعفه يحيى بن معين وغيره فإنه كان شيخاً نبيلاً صدوقاً ولكنه كان سيئ الحفظ ويغلط وقد احتمل الناس حديثه وإنما يخشى من حديثه إذا لم يتابع عليه أو خالفه فيه الثقات وكلاهما منتف في هذا الحديث لأن في الطريق الآخر شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير وهذا الإسناد على شرط البخاري، ورواه أيضاً شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير وعطاء بن السائب ثقة قد أخرج له مسلم فهو على شرط مسلم وإن كان عطاء قد تكلم فيه من قبل اختلاطه فإنما يخاف منه ما انفرد به أو خولف فيه وكلاهما منتف فقد علم بهذا أن لهذا الحديث أصلاً وأن رواته ثقات ليس فيهم متهم وإن كان فيهم من هو سيئ الحفظ فقد تابعه عليه غيره.
فإن قلت ففي الحديث الثاني شك في رفعه إنما هو جزم بأن أحد الرجلين رفعه وشك شعبة في تعيينه هل هو عطاء بن السائب أو عدي بن ثابت وكلاهما ثقة فإذا رفعه أحدهما وشك في تعيينه لم يكن هذا علة في الحديث وقوله من حال البحر أي من طين البحر كما في الرواية الأخرى.
فصل:
ووجه إشكاله ما اعترض به الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره فقال: هل يصح أن جبريل أخذ يملأ فمه بالطين لئلا يتوب غضباً عليه والجواب الأقرب أنه لا يصح لأن في تلك الحالة، إما أن يقال: التكليف هل كان ثابتاً أم لا فإن كان ثابتاً لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة وإن كان التكليف زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى لهذا الذي نسب إلى جبريل فائدة وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر وأيضاً فكيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان.
ولو قيل: إن جبريل فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله فهذا يبطله قول جبريل وما نتنزل إلا بأمر ربك فهذا وجه الإشكال الذي أورده الإمام على هذا الحديث في كلام أكثر من هذا، والجواب عن هذا الاعتراض أن الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا اعتراض عليه لأحد.
وأما قول الإمام: إن التكليف هل كان ثابتاً في تلك الحالة أم لا فإن كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة فإن هذا القول لا يستقيم على أصل المثبتين للقدر القائلين بخلق الأفعال لله وأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وهذا قول أهل السنة المثبتين للقدر، فإنهم يقولون إن الله يحول بين الكافر والإيمان ويدل على ذلك قوله تعالى: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} وقوله تعالى: {وقالوا قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم} وقال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه قلب أفئدتهم مثل تركهم الإيمان به أول مرة، وهكذا فعل بفرعون منعه من الإيمان عند الموت جزاء على تركه الإيمان أولاً فدس الطين في فم فرعون من جنس الطبع والختم على القلب ومنع الإيمان وصون الكافر عنه وذلك جزاء على كفره السابق وهذا قول طائفة من المثبتين للقدر القائلين بخلق الأفعال لله.
ومن المنكرين لخلق الأفعال من اعترف أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يفعل هذا عقوبة للعبد على كفره السابق فيحسن منه أن يضله ويطبع على قلبه ويمنعه من الإيمان.
فأما قصة جبريل عليه السلام مع فرعون فإنها من هذا الباب فإن غاية ما يقال فيه إن الله سبحانه وتعالى منع فرعون من الإيمان وحال بينه وبينه عقوبة له على كفره السابق ورده للإيمان لما جاءه.
وأما فعل جبريل من دس الطين في فيه فإنما فعل ذلك بأمر الله لا من تلقاء نفسه.
فأما قول الإمام لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه عليها وعلى كل طاعة هذا إذا كان تكليف جبريل كتكليفنا يجب عليه ما يجب علينا.
وأما إذا كان جبريل إنما يفعل أمره الله به والله سبحانه وتعالى هو الذي منع فرعون من الإيمان وجبريل منفذ لأمر الله فكيف لا يجوز له منع من منعه الله من التوبة وكيف يجب عليه إعانة من لم يعنه الله بل قد حكم عليه وأخبر عنه أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم حين لا ينفعه الإيمان.
وقد يقال: إن جبريل عليه السلام إما أن يتصرف بأمر الله فلا يفعل إلا ما أمر الله به وإما أن يفعل ما يشاء من تلقاء نفسه لا بأمر الله وعلى هذين التقديرين فلا يجب عليه إعانة فرعون على التوبة ولا يحرم عليه منعه منها لأنه إنما يجب عليه فعل ما أمر به ويحرم عليه فعل ما نهي عنه والله سبحانه وتعالى لم يخبر أنه أمره بإعانة فرعون ولا حرم عليه منعه من التوبة وليست الملائكة مكلفين كتكليفنا.
وقوله وإن كان التكليف زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى هذا الذي نسب إلى جبريل فائدة فجوابه أن يقال إن للناس في تعليل أفعال الله قولين أحدهما أن أفعاله لا تعلل وعلى هذا التقدير فلا يريد هذا السؤال أصلاً وقد زال الإشكال.
والقول الثاني: إن أفعاله تبارك وتعالى لها غاية بحسب المصالح لأجلها فعلها وكذا أوامره ونواهيه لها غاية محمودة محبوبة لأجلها أمر بها ونهى عنها وعلى هذا التقدير قد يقال لما قال فرعون آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وقد علم جبريل أنه ممن حقت عليه كلمة العذاب وأن إيمانه لا ينفعه دس الطين في فيه لتحقق معاينته للموت فلا تكون تلك الكلمة نافعة له وأنه وإن كان قالها في وقت لا ينفعه فدس الطين في فيه تحقيقاً لهذا المنع والفائدة فيه تعجيل ما قد قضي عليه وسد الباب عند سداً محماً بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ ولا يبقى من عمره زمن يتسع للإيمان فإن موسى عليه السلام لما دعا ربه بأن فرعون لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم والإيمان عند رؤية العذاب غير نافع أجاب الله دعاءه.
فلما قال فرعون تلك الكلمة عند معاينة الغرق استعجل جبريل فدس الطين في فيه لييأس من الحياة ولا تنفعه تلك الكلمة وتحقق إجابة الدعوة التي وعد الله موسى بقوله قد أجيبت دعوتكما فيكون سعي جبريل في تكميل ما سبق في حكم الله أنه يفعله فيكون سعي جبريل في مرضاة الله سبحانه وتعالى منفذاً لما أمره به وقدره وقضاه على فرعون.
وأما قوله: لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر، فجوابه ما تقدم من أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وجبريل إنما يتصرف بأمر الله ولا يفعل إلا ما أمره الله به وإذا كان جبريل قد فعل ما أمره الله به ونفذه فإنما رضي بالأمر لا بالمأمور به فأي كفر يكون هنا وأيضاً فإن الرضا بالكفر إنما يكون كفراً في حقنا لأنا مأمورون بإزالته بحسب الإمكان فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفراً في حقنا لمخالفتنا ما أمرنا به.
وأما من ليس مأموراً كأمرنا ولا مكلفاً كتكليفنا بل يفعل ما يأمره به ربه فإنه إذا نفذ ما أمره به لم يكن راضياً بالكفر ولا يكون كفراً في حقه وعلى هذا التقدير فإن جبريل لما دس الطين في في فرعون كان ساخطاً لكفره غير راض به والله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد خيرها وشرها وهو غير راض بالكفر فغاية أمر جبريل مع فرعون أن يكون منفذاً لقضاء الله وقدره في فرعون من الكفر وهو ساخط له غير راض به وقوله كيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان فجوابه أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وأما قوله وإن قيل إن جبريل إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله فجوابه أنه إنما فعل ذلك بأمر الله منفذاً لأمر الله والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
قوله سبحانه وتعالى: {فاليوم ننجيك ببدنك} أي نلقيك على نجوة من الأرض وهي المكان المرتفع.
قال أهل التفسير: لما أغرق الله سبحانه وتعالى فرعون وقومه أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه فقالت بنو إسرائيل ما مات فرعون وإنما قالوا ذلك لعظمته عندهم وما حصل في قلوبهم من الرعب لأجله فأمر الله عز وجل البحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصيراً كأنه ثور فرآه بنو إٍسرائيل فعرفوه فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتاً أبداً، ومعنى قوله ببدنك يعني نلقيك وأنت جسد لا روح فيه وقيل هذا الخطاب على سبيل التهكم والاستهزاء كأنه قيل له ننجيك ولكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك.
وقيل: أراد بالبدن الدرع وكان لفرعون درع من ذهب مرصع بالجواهر، يعرف به فلما رأوه في درعه ذلك عرفوه {لتكون لمن خلفك آية} يعني عبرة وموعظة، وذلك أنهم ادعوا أن مثل فرعون لا يموت أبداً فأظهره الله لهم حتى يشاهدوه وهو ميت لتزول الشبهة من قلوبهم ويعتبروا به لأنه كان في غاية العظمة فصار إلى نهاية الخسة والذلة ملقى على الأرض لا يهابه أحد {وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون} قوله عز وجل: {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق} يعني أسكناهم مكان صدق وأنزلناهم منزل صدق بعد خروجهم من البحر وإغراق عدوهم فرعون.
والمعنى: أنزلناهم منزلاً محموداً صالحاً وإنما وصف المكان بالصدق لأن عادة العرب إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق تقول العرب: هذا رجل صدق وقدم صدق والسبب فيه أن الشيء إذا كان كاملاً صالحاً، لا بد أن يصدق الظن فيه وفي المراد بالمكان الذي بوءوا قولان أحدهما أنه مصر فيكون المراد: إن الله أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من ناطق وصامت وزرع وغيره.
والقول الثاني: إنه أرض الشام والقدس والأردن لأنها بلاد الخصب والخير والبركة {ورزقناهم من الطيبات} يعني تلك المنافع والخيرات التي رزقهم الله تعالى: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} يعني فما اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل حتى جاءهم ما كانوا به عالمين وذلك أنهم كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مقرين به مجمعين على نبوته غير مختلفين فيه لما يجدونه مكتوباً عندهم فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيه فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وكفر به بعضهم بغياً وحسداً.
فعلى هذا المعنى يكون المراد من العلم المعلوم والمعنى فما اختلفوا حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه حقاً فوضع العلم مكان العلوم وقيل المراد من العلم القرآن النازل على محمد صلى الله عليه وسلم وإنما سماه علماً لأنه سبب العلم وتسمية السبب بالمسبب مجاز مشهور وفي كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان:
الأول: أن اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته ويفتخرون بذلك على المشركين، فلما بعث كذبوه بغياً وحسداً وإيثاراً لبقاء الرياسة لهم فآمن به طائفة قليلة وكفر به غالبهم.
والوجه الثاني: أن اليهود كانوا على دين واحد قبل نزول القرآن فلما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم آمن به طائفة وكفر به آخرون.
وقوله تعالى: {إن ربك} يعني يا محمد {يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} يعني من أمرك وأمر نبوتك في الدنيا فيدخل من آمن بك الجنة ومن كفر بك وجحد نبوتك النار.


{فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} الشك في موضع اللغة خلاف اليقين والشك اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين أو لعدم الأمارة والشك ضرب من الجهل وهو أخص منه فكل شك جهل وليس كل جهل شكاً فإذا قيل فلان شك في هذا الأمر فمعناه توقف فيه حتى يتبين له فيه الصواب أو خلافه وظاهر هذا الخطاب في قوله فإن كنت في شك أنه للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى فإن كنت يا محمد في شك مما أنزلنا إليك يعني من حقيقة ما أخبرناك به وأنزلناه يعني القرآن {فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} يعني علماء أهل الكتاب يخبرونك أنك مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وأنك نبي يعرفونك بصفتك عندهم وقد توجه هاهنا سؤال واعتراض وهو أن يقال هل شك النبي صلى الله عليه وسلم فيما أنزل عليه أو في نبوته حتى يسأل أهل الكتاب عن ذلك وإذا كان شاكاً في نبوة نفسه كان غيره أولى بالشك منه.
قلت: الجواب عن هذا السؤال والاعتراض ما قاله القاضي عياض في كتابه الشفاء فإنه أورد هذا السؤال، ثم قال: احذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره فيه بعض المفسرين عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه فإنه من البشر فمثل هذا لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم جملة بل قال ابن عباس: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل. ونحوه عن سعيد بن جبير والحسن البصري. وحكي عن قتادة أنه قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أشك ولا أسأل» وعامة المفسرين على هذا، ثم كلام القاضي عياض رحمه الله ثم اختلفوا في معنى الآية ومن المخاطب بهذا الخطاب على قولين أحدهما أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر والمراد به غيره فهو كقوله لئن أشركت ليحبطن عملك ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرك فثبت أن المراد به غيره ومن أمثلة العرب: إياك أعني واسمعي يا جارة. فعلى هذا يكون معنى الآية قل يا محمد، يا أيها الإنسان الشاك إن كنت في شك مما أنزلنا إليك على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم فاسأل الذين يقرؤون الكتاب يخبروك بصحته ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في آخر هذه السورة قل يا أيها الناس إن كنتم في شك في ديني الآية فبين أن المذكور في هذه الآية على سبيل الرمز وهو المذكور في تلك الآية على سبيل التصريح وأيضاً لو كان النبي صلى الله عليه وسلم شاكاً في بنوته لكان غيره أولى بالشك في نبوته وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية معاذ الله من ذلك وقيل إن الله سبحانه وتعالى علم أن النبي لم يشك قط فيكون المراد بهذا التهييج فإنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع هذا الكلام يقول: «لا أشك يا رب ولا أسأل أهل الكتاب بل أكتفي بما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة» وقال الزجاج: إن الله خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله فإن كنت في شك وهو شامل للخلق فهو كقوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وهذا وجه حسن لكن فيه بعد وهو أن يقال متى كان الرسول صلى الله عليه وسلم داخلاً في هذا الخطاب كان الاعتراض موجوداً والسؤال وارداً، وقيل: إن لفظة إن في قوله فإن كنت في شك للنفي ومعناه وما أنت في شك مما أنزلنا إليك حتى تسأل فلا تسأل ولئن سألت لازددت يقيناً.
والقول الثاني: إن هذا الخطاب ليس هو للنبي صلى الله عليه وسلم البتة ووجه هذا القول إن الناس كانوا في زمنه على ثلاث فرق فرقة له مصدقون وبه مؤمنون وفرقة على الضد من ذلك والفرقة الثالثة المتوقفون في أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله عز وجل بهذا الخطاب، فقال تمجد وتعالى فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فاسأل أهل الكتاب ليلوك على صحة نبوته وإنما وحد الله الضمير في قوله فإن كنت وهو يريد الجمع لأنه خطاب لجنس الإنسان كما في قوله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} لم يرد في الآية إنساناً بعينه بل أراد الجمع واختلفوا في المسؤول عنه في قوله تعالى: {فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} من هم فقال المحققون من أهل التفسير: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه لأنهم هم الموثوق بأخبارهم.
وقيل: المراد كل أهل الكتاب سواء مؤمنهم وكافرهم لأن المقصود من هذا السؤال الإخبار بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو أنه مكتوب عندهم صفته ونعته فإذا أخبروا بذلك فقد حصل المقصود والأول أصح. وقال الضحاك يعني أهل التقوى وأهل الإيمان من أهل الكتاب ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم {لقد جاءك الحق من ربك} هذا كلام مبتدأ منقطع عما قبله وفيه معنى القسم تقديره أسقم لقد جاءك الحق اليقين من الخير بأنك رسول الله حقاً وأن أهل الكتاب يعلمون صحة ذلك {فلا تكونن من الممترين} يعني من الشاكين في صحة ما أنزلنا إليك {ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله} يعني بدلائله وبراهينه الواضحة {فتكون من الخاسرين} يعني الذين خسروا أنفسهم.
واعلم أن هذا كله على ما تقدم من أن ظاهره خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره ممن عنده شك وارتياب فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يرتب ولم يكذب بآيات الله فثبت بهذا أن المراد به غيره والله أعلم.
قوله سبحانه وتعالى: {إن الذين حقت عليهم} يعني وجبت عليهم {كلمة ربك} يعني حكم ربك وهو قوله سبحانه وتعالى: وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي وقال قتادة: سخط ربك وقيل لعنة ربك وقيل هو ما قدره عليهم وقضاه في الأزل {لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية} فإنهم لا يؤمنون بها {حتى يروا العذاب الأليم} فحينئذ لا ينفعهم شيء قوله سبحانه وتعالى: {فلولا} يعني فهلا {كانت قرية} وقيل معناه فما كانت قرية وقيل لم تكن قرية لأن في الاستفهام معنى الحجة والمراد هل كانت قرية {آمنت} يعني عند معاينة العذاب {فنفعها إيمانها} يعني في حال اليأس {إلا قوم يونس} هذا استثناء منقطع يعني لكن قوم يونس فإنهم آمنوا فنفعهم إيمانهم في ذلك الوقت وهو قوله: {لما آمنوا} يعني لما أخلصوا الإيمان {كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} يعني إلى وقت انقضاء آجالهم واختلفوا في قوم يونس هل رأوا العذاب عياناً أم لا فقال بعضهم رأوا دليل العذاب فآمنوا؛ وقال الأكثرون إنهم رأوا العذاب عياناً بدليل قوله كشفنا عنهم عذاب الخزي والكشف لا يكون إلا بعد الوقوع أو إذا قرب وقوعه.
ذكر القصة في ذلك:
على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ووهب وغيرهم قالوا: إن قوم يونس كانوا بقرية نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فأرسل الله سبحانه وتعالى إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام فدعاهم فأبوا عليه فقيل له أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فأخبرهم بذلك فقالوا إنا لم نجرب عليه كذباً قط فانظروا فإن بات فيكم الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم فلما كلان جوف الليل خرج يونس من بين أظهرهم فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم. قال ابن عباس: إن العذاب كان أهبط على قوم يونس حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل فلما دعوا كشف الله عنهم ذلك.
وقال مقاتل: قدر ميل، وقال سعيد بن جبير: غشي قوم يونس العذاب كما يغشى الثوب القبر، وقال وهب: غامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً فهبط حتى غشي مدينتهم واسودت أسطحتهم فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيهم يونس عليه السلام فلم يجدوه فقذف الله سبحانه وتعالى في قلوبهم فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم فلبسوا المسموح وأظهروا الإسلام والتوبة وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والدواب فحن البعض إلى البعض فحن الأولاد إلى الأمهات والأمهات إلى الأولاد وعلت الأصوات وعجوا جميعاً إلى الله وتضرعوا إليه وقالوا آمنا بما جاء به يونس وتابوا إلى الله وأخلصوا النية فرحمهم ربهم فاستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب بعد ما أظلهم وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة.
قال ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي إلى الجر وقد وضع أساس بنيانه عليه فيقلعه فيرده.
وروى الطبري بسنده عن أبي الجلد خيلان قال: لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى قال قالوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوها فكشف الله عنهم العذاب ومتعوا إلى حين.
وقال الفضيل بن عياض: إنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، قال: وخرج يونس وجعل ينتظر العذاب فلم ير شيئاً فقيل له ارجع إلى قومك قال وكيف أرجع إليهم فيجدوني كذاباً وكان من كذب ولا بينة له قال فانصرف عنهم مغاضباً فالتقمه الحوت وستأتي القصة في سورة والصافات إن شاء الله تعالى فإن قلت كيف كشف العذاب عن قوم يونس بعد ما نزل بهم وقبل توبتهم ولم يكشف العذاب عن فرعون حين آمن ولم يقبل توبته.
قلت: أجاب العلماء عن هذا بأجوبة:
أحدهما: أن ذلك كان خاصاً بقوم يونس والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
الجواب الثاني: أن فرعون ما آمن إلا بعد ما باشر العذاب وهو وقت اليأس من الحياة وقوم يونس دننا منم العذاب ولم ينزل بهم ولم يباشرهم فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية.
الجواب الثالث: أن الله عز وجل علم صدق نياتهم في التوبة فقبل توبتهم بخلاف فرعون فإنه ما صدق في إيمانهم ولا أخلص فلم يقبل منه إيمانه والله أعلم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10